مقالات استراتيجية

اللجنة الفنية العسكرية بين واشنطن وبغداد.. اسبقيات ضرورية وكوابح محتملة

مقالات استراتيجية - العراق -الولايات المتحدة

اللجنة الفنية العسكرية بين واشنطن وبغداد.. اسبقيات ضرورية وكوابح محتملة
الدكتور عماد علو
بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير 2024، تسلم نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية فؤاد حسين من السفيرة الأمريكية في بغداد إلينا رومانوسكي، “رسالة مهمة” من الحكومة الامريكية إلى الحكومة العراقية، لم يكشف عن مضمونها، ولكن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين قال انها ستدرس من قبل رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بعناية، من دون الخوض في التفاصيل.. وكانت وكالة «رويترز» قد نقلت عن مصادر موثوقة، أن الولايات المتحدة والعراق بصدد بدء محادثات تهدف لإنهاء مهمة التحالف، وهي خطوة في عملية تعثرت بسبب الحرب في قطاع غزة.وأفادت تقارير صحفية، أن الرسالة «واضحة في أن واشنطن لا تمانع في الانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية. وتتعرض قوات الولايات المتحدة التي تقدر بـ(2500)، عسكري لهجمات شبه يومية من قبل فصائل (المقاومة الإسلامية في العراق)، منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، قابلتها الولايات المتحدة بسلسلة من عمليات القصف استهدفت قادة ومقار للحشد الشعبي. وحمل الصراع المسلح بين الفصائل والقوات الامريكية، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للدعوة إلى سرعة خروج قوات التحالف الذي تقوده واشنطن عبر المفاوضات، في وقت لم تكن واشنطن ترغب في التفاوض على انسحاب محتمل بينما تتعرض لهجمات، إذ تخشى من أن يبدو ذلك الانسحاب وكأنه يحدث تحت ضغط، الأمر الذي من شأنه أن يرسل رسائل خاطئة لمنافسين إقليميين من بينهم إيران. وفي بيان لاحق لوزارة الخارجية العراقية ذكرت فيه أن المفاوضات التي بدأت في أغسطس/آب 2023، انتهت إلى «ضرورة إطلاق اللجنة العسكرية العليا على مستوى مجاميع العمل لتقييم تهديد (داعش) وخطره، والمتطلبات الظرفية والعملياتية وتعزيز قدرات القوات الأمنية العراقية، وذلك لصياغة جدول زمني محدد وواضح يحدد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي في العراق» واستطرد البيان الى أن من أهداف اللجنة أيضاً «مباشرة الخفض التدريجي المدروس لمستشاريه (التحالف) على الأرض العراقية، وإنهاء المهمة العسكرية للتحالف ضد (داعش)، والانتقال إلى علاقات ثنائية شاملة بدول التحالف».كثيرة هي الأسئلة حول مستقبل العلاقات الامريكية العراقية في ضوء ما يتوقع من مخرجات عمل اللجنة الفنية العسكرية بين واشنطن وبغداد، وما قد يسفر عنه من نتائج ربما تنعكس على شكل وطبيعة العلاقات العراقية الامريكية في المستقبل، وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه في هذه المقالة.
اسبقيات ضرورية للمسار العسكريلا شك أن اللجنة الفنية العسكرية بين واشنطن وبغداد ستنطلق في مباحثاتها من متطلبات استراتيجية الإصلاح للمؤسسات العسكرية والأمنية العراقية، واستنادا” الى الاتفاقات المبرمة مـا بين العراق والولايات المتحدة الامريكية (الاتفاقيــة الامنيــة SOFA -أتفــاق الاطــار الاســتراتيجي Strategic Framework Agreement (SFA))، المعقودة في ٢٧ /١١ / ٢٠٠٨  لتأســيس مــدركات جديــدة لإقامة علاقــات شــراكة وتعاون بين الجانبين ضمن أطار تعزيز التعاون والتفاهمات الامنية والعسكرية بـين العـراق والولايـات المتحدة الامريكية لمرحلة العلاقة الثنائية التي أشار اليها السيد رئيس مجلس الوزراء العراقي.ويبدو أن اسناد تنظيم وتنسيق العلاقة المستقبلية في المسار العسكري والأمني الى لجنة فنية مهنية عسكرية من الجانبين، استند الى قراءة موضوعية، لما سوف يترتب عليه خروج الوجود العسكري الأجنبي والامريكي، من تبعات وكلف سياسية واقتصادية وامنية عدة على الجانب العراقي من الصعب مواجهتها لا سيما في ظل التحديات السياسية والامنية والاقتصادية والصحية التي تواجه الدولة العراقية، ومن دون أن يرافق ذلك الانسحاب حصول أي ثغرات أمنية خلاله أو بعد إتمامه، وان يضمن المصالح الأمنية لجميع الأطراف. ولا شك أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل فيما لو قررت الولايات المتحدة والقوات الأجنبية العاملة تحت مضلة التحالف الدولي للحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، الانسحاب في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك الْتزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق.ان أهمية تــأثير المسار الامــني والعســكري في الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، علــى مستقبل العلاقــات الامريكيــة العراقيــة، يأتي مــن خلال الدور المهم للولايات المتحدة الامريكية في دعم سـتراتيجية تسـليح الجـيش العراقـي، والتعـاون المشـترك في أطـار الاتفاقيـة الامنيـة وفي مجال مكافحة الارهاب. حيث ان ستراتيجية التسليح المستقبلية للمؤسسة العسكرية والأمنية العراقية ستضفي دور حيويا” على جاهزية الدور القتالي للجيش العراقي والمؤسسة الأمنية، لمواجهـة التهديـدات المحتملـة لمرحلـة ما بعـد انسحاب قوات التحالف الدولي، وتحـدد العلاقـات الأمنيـة بـين البلـدين وتحكـم الوجـود العسـكري الاميركـي، وتقـرر الصـلاحيات العملياتيـة والنشــاطات العســكرية الأميركيــة، والانســحاب بالتــالي مــن العــراق، وتكفــل الحمايــة للقــوات الاستشارية الامريكية.
العراق وحلف الناتومن الجدير بالإشارة الى العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تبلورت من خلال اتفاقية تدريب قوات الأمن العراقية بين حكومة جمهورية العراق ومنظمة حلف شمال الأطلسي، الموقعة في بروكسل بتاريخ 26 تموز 2009، التي اتفق الطرفان فيها على أن تقدم بعثة الحلف في العراق، المساعدة لمؤسسات تدريب قوات الأمن العراقية وتطويرها على أساس التخصص، من أجل بناء قوات أمن عراقية فعالة ودائمة ومهنية محترفة. ليتطور هذا التعاون مع الناتو بالتوقيع على برنامج شراكة وتعاون ثنائي مشترك (IPCP) تم الاتفاق عليه في24 أيلول 2012، حيث وفرّ إطاراً للحوار السياسي والتعاون المتخصص في تطوير قدرات مؤسسات الأمن والدفاع العراقية في مجال التدريب والتطوير، فضلاً عن مساندته للعراق ضمن إطار الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب الدولي. هذه الشراكة تطورت لاحقا” من خلال الاتفاق بين مستشارية الامن القومي العراقية و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP)، للعمل منذ عام 2013، على برنامج تطوير استراتيجية أمنية وطنية تركز على مفهوم الأمن الإنساني وتعزز الشمول والمساواة، وبدعم مالي من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الاوربي، استهدف البرنامج تأطير طرق الحكومة في تطوير قطاع أمني قابل للمساءلة، وميسور التكلفة، وتمثيلي ومتجاوب يعكس حاجات العراقيين وهواجسهم، واقتراح خطة اصلاح وتطوير، وتحديد الأولويات على المدى القصير والمتوسط والطويل، لتحسين كفاءة قطاع الأمن العراقي وفاعليته ومساءلته، إضافة إلى ضمان تنسيق التدخلات الإصلاحية بشكل بنّاء ضمن إطار عمل مركزي واحد. وتتضمن أهداف الخطة كذلك، تأسيس آليات للتعاون والتنسيق، وتعزيز قدرة الإشراف الديموقراطي للجنة الأمن والدفاع، وزيادة انخراط الحكومة مع المجتمع المدني، وتحسين قدرة المجتمع المدني في مجال إصلاح القطاع الأمني، وفق استراتيجية الامن القومي العراقية وتماشياً مع البرنامج الإصلاحي للحكومة. ويدعم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إصلاح قطاع الأمن في العراق منذ 2013 بحكم دوره الأوسع في مجال دعم سيادة القانون. استنادا” لكل ما سبق، فان تحديد الأولويات الامنية في العلاقة بين البعثة العسكرية لحلف الناتو والتي من ضمنها قوات امريكية ستكون هي الأخرى أحد أهداف المفاوض العراقي ضمن مسارات الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، ومن خلاله يمكن بحث الموقف الامريكي من قوات الحشد الشعبي كونها قوات عراقية رسمية، الى جانب تعزيز وتطوير القوات العسكرية العراقية عبر تقديم المساعدات اللوجستية والدعم الامني والعسكري، وبما يضمن أمن وسيادة العراق كدولة مستقلة، وبعيداً عن التأثيرات والتقاطعات الاقليمية والدولية في المنطقة.
رؤية المفاوض الامريكيمنذ الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، وطبقاً للاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، واتفاقية “الإطار الاستراتيجي لعمل القوات الأمريكية في العراق” المبرمة بين البلدين عام 2008، ركزت الاستراتيجية الأمريكية في العراق على التعاطي مع ثلاث قضايا ترتبط بالأمن العراقي والأمن الإقليمي الأوسع وهي : مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي، والدور الإيراني في العراق؛ ووضع الحشد الشعبي، وآليات ضبط الفصائل الولائية (وتحديداً الفصائل الخمسة الكبرى: كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب الإمام علي).الا أن الرسالة الأمريكية الأخيرة الى الحكومة العراقية والتي دعت فيها إلى تفعيل عمل اللجنة الفنية العسكرية بين واشنطن وبغداد، جاءت تعبيرا” عن توجه أمريكي لتطوير أو تحديث الرؤية الاستراتيجية الامريكية تجاه العراق. ومن الجدير بالذكر أن (الدكتور أنتوني بفافAnthony Pfaff)) أستاذ الدراسات الاستراتيجية معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب بالجيش الأمريكي، والمستشار العسكري بوزارة الخارجية الأمريكية، كان قد طالب برؤية أمريكية جديدة لتطوير أو تحديث الاستراتيجية الامريكية تجاه العراق، عبر حوار إستراتيجي بين بغداد وواشنطن، وذلك في دراسته التي نشرها معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب بالجيش الأمريكي، الموسوم (احترافية الجيش العراقي: التواجد العسكري الأمريكي في العراق بعد داعش، (PROFESSIONALIZING THE IRAQI ARMY; US ENGAGEMENT AFTER THE ISLAMIC STATE) ، كما نشرها المجلس الأطلنطي في ٣ فبراير /شباط 2020.  وقد حاول أنتوني بفاف في دراسته وضع تصور مستقبلي لأسس التواجد العسكري الأمريكي بالعراق، ولا شك أن ما طالب به الدكتور بفاف، قد لا يكون بالضرورة ما سيلتزم به المفاوض الأمريكي في المسار العسكري للحوار بين بغداد وواشنطن، وقد يتقاطع مع مطالب واتجاهات المحاور أو المفاوض العسكري العراقي، مما سيضع الكوابح والعراقيل امام تقدم عمل اللجنة الفنية العسكرية بين الطرفين.! والسؤال هنا ترى ما هي تلك الكوابح أو المعرقلات؟
كوابح محتملة لعمل اللجنة الفنية العسكريةيتضح مما سبق أن كل من العراق والولايات المتحدة الامريكية يسعيان عبر الحوار الإستراتيجي بينهما، لتأسيس علاقات إستراتيجية جديدة منطلقها تغيير طبعة علاقة التعاون العسكري والأمني بين العراق والولايات المتحدة، وبالمقارنة بين الرؤية العراقية ونظيرتها الامريكية إزاء أسس مستقبل التعاون العسكري والأمني بين البلدين نجد أن هناك بعض الكوابح التي قد تعيق التوصل الى تفاهمات من اجل الشراكة والتعاون العسكري والأمني بينهما، ويمكن الإشارة إلى بعضها في النقاط التالية:

  1. ستواجه الحكومة العراقية التي تشكلت على أساس الشراكة في إطار (ائتلاف إدارة الدولة)، بعض المعاضل بسبب حالة الانقسام السياسي الحاد بين القوى السياسية بشأن الموقف من الولايات المتحدة؛ والتي تتمظهر كما يلي:
  • تكتلات وقوى سياسية، ترى أهمية في استمرار بقاء القوات العسكرية الأمريكية في إطار تصور أوسع يقوم على شراكة متعددة الجوانب لا تقف عند حد الشراكة العسكرية فقط.
  • تكتلات وقوى سياسية ترفض تماماً أي تواجد عسكري أمريكي وغير عسكري داخل العراق.
  • تكتلات وقوى سياسية تتوسط المسافة بين القبول التام والرفض التام لدور أمريكي يقوم على شراكة متعددة الجوانب مع العراق.
  1. مطالب الفصائل المسلحة (فصائل المقاومة الإسلامية في العراق)، بانسحاب القوات الأمريكية من العراق وليس مجرد تغيير في مسميات، ومضمون وطبيعة البقاء العسكري الأمريكي داخل العراق.
  2. ترفض حكومة إقليم كردستان العراق الانسحاب الأمريكي؛ نظراً لطبيعة علاقات التعاون الثنائية المتميزة التي تجمع بين واشنطن وأربيل.
  3. من المرجح أن تستمر سياسة فرض العقوبات على فصائل الحشد الشعبي نتيجة لاهتمام الإدارة الأمريكية بالحد من الآثار السلبية للدور الإيراني في العراق والمنطقة.
  4. صعوبة تأمين الحماية اللازمة للمصالح والمواقع الأمريكية من قواعد وعتاد، وللمستشارين العسكريين الذين سيتولون مهام التدريب والتسليح والعمل الاستخباراتي.

من خلال المقارنة بين الرؤية العراقية ونظيرتها الامريكية وما يعترضهما من كوابح، فانه بقدر تعلق الأمر بالمسار العسكري في إطار عمل اللجنة الفنية العسكرية، فانه من مصلحة كلا الطرفين الالتقاء والبناء على المشتركات، كأسبقية أولى، والابتعاد عن التقاطعات التي تتعلق بالمواقف السياسية. اجمالاً، يشكل عمل اللجنة الغنية العسكرية وما سيسفر عنه تحدياً لكلا البلدين، في اتجاه رسم معالم علاقة استراتيجية مستدامة، تخدم أهدافهما ومصالحهما، وتساعد في إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.


الكاتب

اللواء المهندس البحري الركن المتقاعد الدكتور عماد علوّ. حاصل على درجة الماجستير في هندسة أجهزة الملاحة البحرية من أكاديمية كيروف/ الاتحاد السوفيتي السابق عام 1978، وماجستير في العلوم العسكرية من كلية الاركان العراقية عام 1990، والدبلوم العالي في استراتيجيات الدفاع الوطني من كلية الدفاع الوطني العراقية عام 2001، وحاصل على الدكتوراة في تاريخ الحضارة والتراث العلمي العربي عام 2005. صدر له سبعة كتب وعشرات المقالات والدراسات المتخصصة في القضايا، والشؤون الاستراتيجية، والأمنية، والجيوسياسية. عضواً في العديد من المؤسسات العلمية والبحثية ومستشاراً معتمداً لعدد من مراكز البحوث والدراسات العربية والأجنبية. تستضيفه العديد من وسائل الاعلام والصحافة المحلية والأجنبية كخبير ومحلل امني واستراتيجي.
المصدر مجلة جي فوكس الاوروبية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى