رصد وتقييم المؤشراتشؤون عسكرية وامنيةمقالات استراتيجية

حرب المصالح المضطربة -الدكتور مهند العزاوي

منتدى الراي - استراتيجي

حرب المصالح المضطربة

الدكتور مهند العزاوي*

  تشير الوقائع والاحداث الى عالم مضطرب وغير متوازناً،  متخم بالنزاعات والحروب وأزمات مركبة ، وظواهر نازفة متعددة ، ولم تقتصر الازمات على الشرق الاوسط فحسب بل اصابت العالم برمتها ، وتعاني دول العالم من التحولات والمتغيرات السياسية وتغول الشركات المتعددة الجنسيات ، وتراجع دور الدول لصالح الاولغارشية العالمية المتوغلة بجشع كبير،  ويبدو ان النظام العالمي قد غادرنا بلا رجعة وغير مأسوف عليه ، وقد خلف حزمة كوارث اصابت الدول والشعوب والمجتمعات والافراد ، ولم نشهد منذ عقود سياقات اممية جامعة تضع بوصلة حلول للحروب ، وفض النزاعات ، ومعالجة الظواهر والأزمات المركبة التي تتناسل وتنشطر في البيئة الدولية ، ويسود مناخها الصراع العمودي والافقي بين الكبار والصغار تحت مسمى المصالح ، ويبدوا لنا ان العالم اضحى اقسى من شريعة الغاب حيث كل شيئاً منطقي وعقلاني مفقود وكما هو الامن والسلم الدولي والاستدامة المجتمعية وحقوق الانسان جميعها اصبحت شعارات بالية لا قيمة لها في ميدان التنفيذ.

العلاقات الدولية

تعتمد العلاقات الدولية على تحليل وتفسير مسارات العلاقات والمصالح بين الدول ، وارتباطها بالمنظمات وجماعات الضغط ، والشركات المتعددة الجنسيات ضمن الواقع السياسي الدولي او الإقليمي، وتتأثر بالتحولات والمتغيرات بين الدول وشكل التحالفات وانماطها وتأثيراتها الاستراتيجية المحتملة، وتُعرف العلاقات الدولية بأنها دراسة التفاعلات بين أصناف محددة من الكيانات الاجتماعية وتشمل أيضاً دراسة الظروف المناسبة التي تحيط بهذه التفاعلات، وهي علاقات شاملة تنطوي على مختلف الجماعات في مجال العلاقات الدولة سواء كانت هذه العلاقات الدولية رسمية أو علاقات دولية غير رسمية. وينطوي مفهوم العلاقات الدولية على جميع الاتصالات بين الدول والعناصر التي جرى ذكرها

ومصطلح العلاقات الدولية يهتم بكافة أشكال التداخل بين الوحدات المعروفة بالدول القومية بجانب المنظمات الدولية و الشركات متعددة الجنسيات و التجارة، وحدد “ستانلي هوفمان[1]” أكثر تحديداً في رؤيته للنظام الدولي، فهو يرى العلاقات الدولية “عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية، ويتحدد هذا النمط بطريق بنيان أو هيكل العالم، وقد تطرأ تغيرات على النظام مردها التطور التكنولوجي أو التغير فى الأهداف الرئيسية لوحدات النظام أو نتيجة التغير في نمط وشكل الصراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنظام” بينما يراها “مورتون كابلان[2]” “وجود مجموعة من القواعد والقيم والمعايير المترابطة التي تحكم عمل العلاقات بين الدول وتحدد مظاهر الانتظام والخلل فيها خلال فترة معينة من الزمن”، وقد استشرف هوفمان تأثير التكنلوجيا على العلاقات الدولية وهذا ما نشهده اليوم لم تعد التكنلوجيا مجرد وسيلة او تجارة فحسب بل اصبحت قوة مؤثرة في العلاقات الدولية وتستخدم كأدوات حرب ونزاع واحيانا اتفاق بين الدول.

عولمة الارهاب

تشير الوقائع ان من ابرز نتائج الخطيئة الاستراتيجية (غزو العراق 2003) كان تفكيك دول الشرق الاوسط وتحويلها الى بؤر نزاع مسلح وحروب مما انعش ظاهرة الإرهاب المسلح الذي جرى عولمته (عولمة الارهاب) وانشاء تنظيمات مسلحة راديكالية موازية مؤدلج بالخيال الديني السياسي، وبرزت على شكل كيانات موازية حاكمة تصادر دور الدول ، فضلا عن جيوش المرتزقة متعددة الجنسيات التي تنتشر بشكل غير مسبوق في اسيا وافريقيا، لتؤسس معادلة الثلث المسلح المعطل ، وهذا يقودنا الى  سيناريوهات ” حدود الدم ” التي وردت بمقال الضابط الأمريكي المتقاعد “رالف بيترز” مخطط إعادة تقسيم للشرق الأوسط بناء على البعد الاثني والديني وأطلق على مشروعه (حدود الدم) وحدد ان هناك دول ستخسر وسيعاد تقسيمها وهنا التقسيم ليس بالضرورة وفق حدود سياسية وفقا للواقع بل التقسيم بسلطات مسلحة غير نظامية وهذا ما نشهده اليوم ، ويتسق بمفهوم بيترز ” إعادة ترتيب منظومة الدول من الداخل والخارج” ، وغيرها من المخططات الافقية المعدة في الاروقة المظلمة لدوائر المخابرات العالمية ونظيراتها الاقليمية والعربية، واكيد ان تغيير الهندسة السياسية والمؤسساتية للدولة تعني الفوضى التي تمتد الى عقود.

الجائحة والحروب

افرزت جائحة كورونا واقع سياسي مختلف استهدف اقتصادات الدول والانماط الاقتصادية التقليدية، وارتفع مؤشر هيمنة الشركات على مقدرات الدول والمجتمعات، وقد اغلقت ملايين الشركات في العالم على اثر الجائحة والاغلاق القسري وخسر الاقتصادات الناشئة خسائر جمة وكذلك الافراد كالشركات المتوسطة والصغيرة لصالح كارتل الشركات الالكترونية التي تغولت بشكل غير مسبوق في مؤسسات الدول وحيوات المجتمع، وقد غيرت من انماط العمل والحياة والعلوم والمهن ، وجعلت العالم يخوض غمار انماط حديثة اربكت الخطط الاستراتيجية الدقيقة والاستشراف المنطقي ، وافرزت طبقة جديدة لا تتسق بالعلوم التقليدية والقواعد المهنية تسعى لترسيخ عالم جديد يتطلب عقود من التحول والتغيير غير المدروس بالتجارب وربما تفشل في ترسيخ انماط الجائحة في ظل الازمات الكارثية الدولية وغياب الحلول الحقيقية لها، وهذا ما اضاف عبئا ثقيلا على الدول والمجتمعات وترك فجوة كبيرة تمس الامن المجتمعي والاستقرار.

الحرب الروسية على اوكرانيا

فشل النظام العالمي في رسم خارطة طريق جيوستراتيجية للدول ترسي دعائم الامن والاستقرار ، بل العكس شهدنا حروب الالفية العبثية في العراق وافغانستان، وانتهت بفشل ذريع ، ولم يستطع النظام الدولي بسمته العالمية من تأهيل الدول والانظمة بمختلف قدراتها لتوافق نسبي محدود ، وعمل على خلق الحروب والنزاعات لزعزعة استقرار الدول ، لاسيما دول الشرق الاوسط وجعلها سوق للحروب ، لتنعش الشركات الامنية والمرتزقة والسلاح منها ، وكذلك شركات الاعلام والاستشارات ، وكانت روسيا اول المتمردين على هذا النظام العالمي ولا تجد فيه التوازن والعدل الدولي ، رغم انها تنهج ذات الاسلوب العسكري ولكن بطرق مختلفة ، بعد ان استولت على شبه جزية القرم 2014 ، وتوغلت في سوريا 2015 ، وشنت عمليات عسكرية واسعة ضد اوكرانيا في2022 ، وقد افرزت هذه الحرب ازمات مركبة معقدة وارهقت اقتصادات العالم لاسيما مع العقوبات الامريكية ، حيث ارتفعت مؤشرات التضخم والركود وانهيار العملة والمصارف، فضلا عن ارتفاع اسعار النفط وبروز ازمات الطاقة ، وكذلك سلاسل التوريد ، وارتفاع اسعار الشحن والتامين ، مقابل ازدهار سوق السلاح والامن والجريمة المنظمة ، وارتفاع معدلات الهجرة والبطالة ، ولم تصمد دول اقليمية وعربية امام ازمات الطاقة والغذاء، والسؤال المنطقي هو اين بيوت الخبرة والخبراء واين ملايين المقالات والبحوث التي تتحدث عن التنظيم والاستشراف وصناعة القرار؟؟ والعالم يرزح تحت سوط الازمات المركبة القاسية التي عجز عن استشرافها هؤلاء!!

اضطراب وتقاطع المصالح الدولية

نجد ان الكثر من المفاهيم والمصطلحات والاسس السياسية أضحت تعاني من نقص في الوصول الى التوصيف الصحيح للواقع السياسي الدولي والإقليمي والمحلي ، نظرا لضيق فوهة الرؤية ، واتساع العناصر الفاعلة والمؤثرة ، واضطراب وتقاطع المصالح فضلا عن المتغيرات والتحولات السياسية ، ويشير الواقع السياسي وبوضوح الى المدرسة البرغماتية في العلاقات الدولية واعتقد ان هذه المدرسة سبب الانفلات الاستراتيجي ، ولا تتسق بالقيم الاستراتيجية الساعية للأمن والسلم الدوليين ، ونشهد الصراع والتحول في اليات ومسالك العلاقات الدولية بين الدول المتمركزة كالولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا ، ولكل طرف استراتيجيته السياسية الساعية للتنافس حول مصادر الطاقة الاستراتيجية ، وسياق التواجد العسكري البري والبحري ، فضلا عن شغل الرقع الاقتصادية الفعالة في الشرق الاوسط وافريقيا محور الصراع ، واكيد جميع الدول تعمل  وفقا مصالحها (المصالح الدولية وليست العلاقات الدولية) لان المصالح اصبحت تحدد نوع وطبيعة العلاقات الدولية  وديمومتها ، وازدهارها او افولها وتحولها لمرحلة النزاع والصراع ، كما نشهده بين الولايات المتحدة والصين ، وايضا التحول السياسي المفاجئ لسياسات دول غرب اسيا.

خلاصة

بناء على ما تقدم يسير العالم الى تقاطع انفاق استراتيجية صوب حرب عالمية ثالثة ، نظرا للتحولات السياسية الحاصلة ، وعدم اكتراث العناصر الفاعلة غير الدولية كـ الشركات المتعددة الجنسيات وجماعات الضغط بذلك ، وان استخدام التنظيمات المسلحة في النزاعات الاقليمية والمحلية اصبح مثيرا للقلق وخطر يهدد سلامة الدول المتبقية ،  مع  انفراط  عقد النسق الدولي واندثار القانون الدولي ، وتمدد ظواهر الدول الفاشلة (المليشيا سلطة) ، وازدهار منظومة الفساد العالمي والجريمة المنظمة وتجارة السلاح ، ونحن الان في مخاض تشكيل نظام عالمي جديد يحدد معايير مختلفة للقيم الاكاديمية التي وضعت في العلوم السياسية سابقا ، وربما لا يحدث  ويستنزف موارد عالمية كبيرة ، ويقود لحرب الكبار ، حيث لم تعد المسميات والمفاهيم السياسية منطبقة على الواقع السياسي المعاصر ، مما يثقل المشهد السياسي الدولي بأحداث قادمة لم تكن متوقعة او محسوبة.

باحث في الشأن الاستراتيجي

‏14‏ أيار‏ 2023

[1] . ستانلي هوفمان (بالفرنسية: Stanley Hoffmann)‏ هو مؤرخ وعالم سياسة فرنسي، ولد في 27 نوفمبر 1928 في فيينا في النمسا، وتوفي في 13 سبتمبر 2015 في كامبريدج في الولايات المتحدة

[2] . مورتون كابلان (Morton Kaplan)‏ هو عالم سياسة أمريكي، ولد في 9 مايو 1921، وتوفي في 26 سبتمبر 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى