دراسات الحربمقالات استراتيجية
دور القدرة النووية العسكرية في العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة الاولى
دراسات الحرب - الحروب المعاصرة
دور القدرة النووية العسكرية في العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة الاولى
شكلت مسألة السلاح النووي معضلة جعلت من مجتمع الباحثين والمتخصصين ينقسمون في الآراء إلى فريقين: فريق يعتبرها ميزة كابحة للحرب العسكرية بين الدول النووية الكبرى، فرضت نوعاً من الاستقرار الدولي. وفريق اخر، يعتبرها تهديداً للأمن والاستقرار الدوليين.
وعلى الرغم من أن الأسلحة النووية قد حققت حالة من الاستقرار النسبي والتوازن الدولي، خلال فترة الحرب الباردة، إلا انه وفي نفس الوقت، فوجود ترسانات نووية لدى قوى متنافسة على إدارة النظام العالمي يزيد من مخاطر وتهديدات تدمير المجتمعات البشرية، في حال يصل الصراع الى المستوى الصفري، مثلما كاد أن يحدث خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. بالإضافة إلى ان نزعة التفوق لدى قادة الدول الأخرى وتطلعاتهم لنشر نفوذ بلدانهم اقليمياً ودولياً يجعلهم يسعون وراء الحصول على القدرة النووية التدميرية. ففي عام 1961، قال الرئيس الفرنسي، شارل ديغول:” ان الأمة التي لا تمتلك أسلحة نووية لا يمكنها التحكم في مصيرها”. وبالتالي، فإن انتشار الأسلحة النووية هو الخطر الأكبر على مستقبل البشرية.
ظهور السلاح النووي
في نهاية الحرب العالمية الثانية أظهرت الأسلحة النووية قدرة تدميرية فائقة من خلال القنبلتين الذريتين اللتان القتهما الولايات المتحدة على اليابان، والتي غيرت جذرياً مفاهيم الأمن والعلاقات الدولية على الساحة العالمية. ففي عام 1945 كانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي تمتلك سلاحاً نووياً، والذي أعتبره الإتحاد السوفيتي تهديداً وجودياً، فسعى للحصول على سلاح نووي لحماية أمنه وأمن وحلفائه من الكتلة الشيوعية الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية. وبالفعل تمكن السوفييت من تصنيع السلاح النووي خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي. وهكذا غيرت القدرة التدميرية للأسلحة النووية مفهوم “الانتصار” في العقيدة العسكرية، من هدف تسعى الاستراتيجية العسكرية لتحقيقه باستخدام الحرب التقليدية، إلى هدف يسعى إليه القادة، ولكنه مشروط بتجنب الحرب المباشرة خشية من الدمار النووي الشامل. وهو الأمر الذي شغل صناع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وعلى الأرجح إن الذعر من سيناريو حرب شاملة تُستخدم فيها أسلحة نووية تؤدي لفناء البشرية، هو السبب الذي كبح جماح نشوب حرب عالمية ثالثة على غرار الحربين السابقتين، وجعل من الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي على شكل حرب باردة استمرت من عام 1947 ولغاية 1991.
توازن الرعب
أدى ظهور الأسلحة النووية المُتزامن والمتشابك مع حالة التنافس بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي، إلى إنتاج مفهوم (توازن القوى) وهي سياسة استراتيجية تقوم على أساس إدارة الصراع بين القوتين النوويتين شريطة تجنب الحرب العسكرية، للحيلولة دون استخدام السلاح النووي. وبالتالي، فإن وجود الترسانة النووية لعب دوراً جوهرياً في تعميق نظام “القطبية الثنائية” في حكم العالم لعقود طويلة، والذي وصفه المُنظر الأمريكي، كينيث فالتز (kenneth waltz)، بأنه نظام صنع استقرار يعتمد أسلوب التواصل والحسابات في إدارة الصراعات الدولية. وكذلك، جوزيف ناي (Joseph Nye) اعتبر ان الرعب من سيناريو استخدام الأسلحة النووية فرض نوعاً من الاستقرار في العلاقات الدولية، بسبب إدراك القادة الأمريكيين والسوفيتيين لحجم الدمار الذي يمكن ان تخلفه هذه الأسلحة في مجتمعاتهم.
وفي إطار التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من منظور توازن القوى القائم على الترسانة النووية العسكرية، تم التركيز على تطوير المستويين العسكريين، العملياتي والتكتيكي، لتعزيز المستوى الاستراتيجي، سعياً لتحقيق التفوق الجيوسياسي والاستراتيجي، وذلك من خلال تصنيع الصواريخ النووية العابرة للقارات (ICBM)، والصواريخ النووية الباليستية التي تطلق من الغواصات البحرية (SLBM). وعلى هذا الأساس، فإن نزعة التفوق لدى القادة في البلدين لم تختف بسبب الذعر من الأسلحة النووية، وإنما اخذت منحى آخر، وهو تطوير القدرات النووية والتكنلوجيا وتعزيز كفاءة الأسلحة النووية. بالإضافة إلى تخليق ميادين جديدة للصراعات ومسارح حروب بديلة تُدار بالوكالة في دول أخرى من العالم، تجنباً لنشوب حرب عسكرية نووية.
تطور العقائد والاستراتيجيات النووية
منذ اللحظة الأولى التي جرى فيها اختبار السلاح النووي في الحرب، اثبت أنه ليس سلاحاً تقليدياً بدليل قدراته التدميرية الهائلة، والاثار الاشعاعية التي يخلفها على الانسان والطبيعة على المدى الزمني البعيد. وعليه فإن ظهور هذا النوع من الأسلحة الاستراتيجية كمتغير جوهري في سياق الصراعات الدولية، غير مفاهيم الامن، والعقائد، والاستراتيجيات العسكرية والجيوسياسية بعد الحرب العالمية الثانية. فيُلاحظ على العقائد النووية بين القوتين العظميين، ان التصعيد بلغ أعلى مستوياته خلال الخمسينيات من القرن العشرين. ففي بداية الخمسينيات صاغت الولايات المتحدة عقيدتها النووية الأولى، المُسماة (عقيدة الانتقام الهائل) والتي نصت على حق استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي للرد ضد أي اعتداء من قبل الاتحاد السوفيتي أو حلفائه. ورداً على ذلك، فالاتحاد السوفيتي طور عقيدة نووية (سوكولوفسكي) في نهاية الخمسينيات، وتنص على حق الاتحاد السوفيتي بالرد النووي الشامل ضد أي هجوم يستهدفه أو يطال أحد حلفائه من المعسكر الشيوعي. بينما شهدت فترة الستينيات خفض للتصعيد في مضمون العقيدة النووية من خلال استقرار التوازن في مفهوم الردع النووي الذي تبناه الطرفان نتيجة لتطور التكنلوجيا في المجال العسكري، والتكافؤ النسبي نووياً. حيث ان الولايات المتحدة طورت عقيدتها النووية في نهاية الخمسينيات فأصبحت (عقيدة الرد المرن) والتي نصت على حقها بالرد المناسب ضد أي هجوم سوفيتي. ثم جاء الرد السوفيتي على العقيدة النووية المُطورة، من خلال عقيدة (بريجنيف) والتي حددت ان الاتحاد السوفيتي لن يُبادر أولاً بالهجوم النووي في حال اندلاع الصراع بين البلدين. وبالتالي، أسهم تطوير العقائد النووية في تكريس مفهوم “توازن القوى” على المستوى العالمي. وتجلى ذلك، في نهاية الستينيات، من خلال الاتفاق بين الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع الاتحاد السوفيتي وحلفائه في حلف وارسو، على صياغة عقيدة الدمار المؤكد المتبادل بين الطرفين (MAD) واستمرت هذه العقيدة النووية فاعلة حتى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، والتي جعلت الطرفين يدركون ضرورة تجنب حرب عسكرية مباشرة، وتخليق ساحات ومسارح بديلة يتصارعون عليها، ومجالات وميادين يتنافسون فيها. ومن أبرز الأمثلة: دعم السوفييت وحلفائهم للفيتناميين في مقاومتهم المسلحة ضد القوات الأميركية (1955-1975). وكذلك دعم الولايات المتحدة للأفغانيين ضد الاحتلال السوفيتي (1979 – 1989).
استنتاجات
بناءً على ما تقدم يتبين لنا ان السمة الأبرز للفترة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، هي استخدام السلاح النووي في حسم الحرب. ثم نزعة القادة الأمريكيين والسوفيتيين نحو تطوير القدرات النووية التدميرية للحصول على ميزة التفوق العالمي، وهي الحالة التي أنتجت نظاماً جديداً تمثل بـ(القطبية الثنائية) حكم العالم لغاية انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ثم بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة بالعالم.
ويتضح من تفاصيل السياق التاريخي للأحداث خلال الحرب الباردة، بعض الاستراتيجيات في إدارة الصراعات الدولية، والتي جرى تطويرها واستخدامها حتى بعد انتهاء تلك المرحلة، ولاتزال فاعلة حتى وقتنا الحاضر في بلدان كثيرة من العالم. ومن أبرزها هي: ان مسؤولية امتلاك قدرة تدميرية فائقة، كالسلاح النووي، على سبيل المثال، تجعل القادة يبحثون عن ساحات وميادين جديدة في دول أخرى من العالم يتصارعون عليها ويتنافسون فيها، ليس من أجل نشر نفوذهم وفرض تفوقهم الإقليمي و/أو العالمي فحسب، وإنما ايضاً هي مساحات يتحركون فيها منعاً لوقوع حروب عسكرية مباشرة، تضطرهم في مرحلة من مراحل الحرب لاستخدام أسلحة الدمار الشامل. فيتم صناعة الازمات أو تصديرها الى دول غير مستقرة يجعلونها مناطق صراع وتنافس: إما لحاجة استراتيجية معينة، أو لتحقيق توازن قوى، أو لزعزعة قوى. ويصح ايضاً أن يكون بعض أو كل مما ذكر أهداف للدولة التي تنتج هذا النوع من الاستراتيجيات. ومن هنا نستنتج ايضاً ان الدولة الطامحة لتحقيق تفوق في مجالها الإقليمي أو العالمي، في ظل بيئة صراع دولي، ستسعى لاستغلال التطورات المتسارعة في شتى المجالات لتوظيفها في صراعاتها الإقليمية والدولية. وكذلك جعل كل الميادين السياسية، الاقتصادية، التكنلوجية، العسكرية، الأمنية، الاجتماعية، العلمية، البيئية…ألخ، كساحات مفتوحة لتلك الصراعات. والدليل على ذلك نجده في تطور مفاهيم الحروب واستراتيجياتها وسياساتها وتكتيكاتها وأدواتها ووسائلها، مثل: الحرب الهجينة، الحرب غير المتماثلة، الحرب السيبرانية، الحرب النفسية، الصناعات التكنلوجية، الصناعات العسكرية، الأسلحة الاستراتيجية..الخ.
والذي يجعل من الذعر النووي خلال الحرب الباردة الأولى “لا شيء” مقارنة بالتطورات المتزايدة في مجالات التكنلوجيا والصناعات العسكرية والنووية، هو ابتكار وتصنيع أسلحة دمار شامل بأنواع وأحجام يسهل انتشارها والتعامل معها، خاصة مع انتشار الجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية المُسلحة في مختلف أنحاء العالم. حيث ان امتلاك هكذا نوع من الجماعات الخطيرة لهذا النوع من السلاح المدمر قد يجعلها لا تترد باستخدامه ضد الخصوم.
الكاتب
محمد الناصري
حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بوخارست، والماجستير في إدارة الازمات والصراعات الدولية من جامعة كارول الأول للدفاع الوطني. عمل سابقاً في مجال الإعلام كمعد للبرامج التلفزيونية ومحرراً للأخبار في إحدى الفضائيات العربية. ينشر كباحث في مجلة “GeoPolitica” الأوروبية والتي تحتل المركز العاشر عالمياً ضمن أكثر المجلات الجيوسياسية تأثيراً على مستوى العالم. وهو رئيس تحرير مجلة جي فوكس الدولية باللغة العربية.
المصدر مجلة جي فوكس الاوروبية
17-2-2024