الحرب في أوكرانيا لم تنته بعد
إذا لم تتلق كييف مساعدات عسكرية قريباً، فقد تجد نفسها في وضع أسوأ من الجمود، إذ ستنقلب الموازين بشكل حاسم لصالح روسيا.
في شباط/فبراير 2024، ستدخل الحرب العدوانية التي شنّتها روسيا ضد أوكرانيا عامها الثالث. وكانت الحصيلة حتى الآن صاعقة، ومن المرجح أن يكون العدد الإجمالي للجنود القتلى والجرحى من الجانبين قد تخطى نصف مليون.
لقد أصبح أكثر من 11 مليون أوكراني إما لاجئاً أو نازحاً داخلياً، كما فر أكثر من مليون مواطن روسي لتجنب التجنيد الإجباري، وتم تدمير معدات بمليارات الدولارات.
ولا تزال أصداء الحرب تتردد على مستوى العالم مع تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع التضخم، وتقلب أسعار الطاقة، ونقص الغذاء – وخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط.
ومع تحوّل روسيا بشكل متزايد إلى دكتاتورية عسكرية، أصبح الصراع مع الغرب سبباً لقيام الكرملين بما قام به، حيث ينظر إلى الحرب كمعركة وجودية بالنسبة لروسيا. فهو نظام لا يمكن أن يبرر وجوده إلا بالصراع، وبالتالي لا يمكنه تحمل كلفة السلام.
ولا يزال بوتين ملتزماً باستراتيجية الانتظار التي تتمثل بأن يفقد الغرب عزمه ويتخلى عن أوكرانيا بينما يمحو في الوقت نفسه الهوية والتاريخ الأوكرانيين.
وقد أصبحت وحدة الغرب والتزامه موضع تشكيك متزايد، بحيث بات مستقبل المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا على المحك. وقد يكون العام المقبل حاسماً للطرفين المتحاربين والنظام العالمي.
الجمود؟
توصّل الغرب خلال الأشهر القليلة الماضية إلى إجماع في خطابه على أن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى طريق مسدود.
لقد ترسخت الفكرة في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر تقريباً، عندما نقلت مجلة “ذي إيكونوميست” عن “القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية”، الجنرال فاليري زالوجني، قوله: “تماماً كما حدث في الحرب العالمية الأولى، بلغنا مستوى التكنولوجيا الذي يوصلنا إلى جمود”، وسيتطلب كسر الجمود قفزة تكنولوجية هائلة.
وأشار الخبراء في الشؤون الأوكرانية إلى أن استخدام زالوجني لمصطلح “جمود” كان مؤسفاً وقد أسيء فهمه، إذ أراد في الأساس الإشارة إلى “التكنولوجيا الحالية”.
وكانت تعليقات زالوجني باللغة الأوكرانية الأصلية تنقل رسالته بشكل أفضل. فقد حذر من وقوع أوكرانيا في مأزق (“زاوية صمّاء”) أو وصولها إلى طريق مسدود إذا لم تحصل على المساعدات العسكرية التي تحتاج إليها.
وبغض النظر عن قدرة أوكرانيا المستمرة على تدمير أسطول البحر الأسود الروسي وقَطْع خطوط السكك الحديدية في أقصى شرق الأراضي الروسية، فإن وجهة النظر القائلة إن البلاد قد وصلت إلى حالة جمود هي التي سيطرت على التصوّر.
وترتكز وجهة النظر هذه على تقييم خاطئ للهجوم الأوكراني المضاد باعتباره فاشلاً، وواقع أن التوقعات الغربية غير متزامنة إلى حد كبير مع ما هو مطلوب لتحقيق هذه النتائج.
ويعرّف قاموس “ويبستر” الجمود بأنه “مأزق”. كما وصف الخبراء العسكريون الجمود في الحرب بأنها حالة “لا يستطيع فيها أي من الطرفين تغيير الخطوط الأمامية بشكل كبير مهما بذل من جهود”. بعبارة أخرى، الجمود هو الحالة التي يفقد فيها كل من الطرفين أي قدرة على تغيير النتيجة.
ووفقاً لهذا التعريف، لم تصل الحرب في أوكرانيا إلى حالة جمود. فما زال الطرفان يملكان خيارات متعددة لتغيير نتيجة الحرب.
وتعتمد القدرة على القيام بذلك إلى حد كبير على الالتزام بالموارد، والإرادة للقتال، وتأثير الأنشطة في جميع المجالات – وليس فقط الحرب البرية.
ما هي التحركات المتبقية؟
أولاً، بإمكان الطرفين البدء بالتعبئة العامة، وعادةً لا تحظى هذه التدابير بشعبية. وتنتظر روسيا من جهتها على الأرجح مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية في آذار/مارس 2024 لهذا السبب.
وفي غضون ذلك، يواجه الجيش الأوكراني أزمة تجنيد. وقد لا يكون أمامه أي خيار قريباً سوى اللجوء إلى التعبئة العامة، بغض النظر عن محاولاته الحثيثة لحماية الذكور الأصغر سناً في البلاد.
ويواجه المجتمعان الروسي والأوكراني استجابات مجتمعية مختلفة للتعبئة العامة. فالمجتمع الأوكراني يتمتع بنقطة إيجابية هي الروح المعنوية العالية والإرادة القوية للقتال دفاعاً عن بلاده، في حين يظل المجتمع الروسي غير مبالٍ بشكل عام.
ومع ذلك، هناك عدد لا يحصى من القضايا الأخرى. فمعدلات الاستنزاف داخل كل جيش، وحجم كل جيش ودولة، والقدرة على تدريب المجندين وتجهيزهم، والتحديات الديموغرافية الشاملة، تختلف بين روسيا وأوكرانيا. وتؤثر جميع هذه العوامل على النتيجة المحتملة.
ثانياً، شهدت جبهات متعددة في مجالات متعددة تطورات وتقلبات مستمرة في أوكرانيا، وقد يستمر التصعيد في عام 2024. ومؤخراً، أثناء كتابة هذه السطور في كانون الأول/ديسمبر 2023، كان الروس يتوغلون في دونيتسك بينما كان الأوكرانيون ينتشرون في دنيبرو.
وفي أوائل كانون الأول/ديسمبر، تموضعت القوات الأوكرانية على الضفة الشرقية لنهر دنيبرو، مما شكل تهديداً للهيمنة الروسية على المنطقة.
وأثناء كتابة هذه السطور، كان الأوكرانيون ينشطون في شرق خيرسون أوبلاست، الأمر الذي اعتبره الخبراء سابقاً من المستحيلات. وحرموا أيضاً الروس، الذين يتعرضون من جانبهم لخسائر بشرية ومادية فادحة في أفدييفكا، من أجزاء كبيرة من البحر الأسود.
من السابق لأوانه معرفة ما هي النتيجة النهائية المنشودة من الطرفين، إلا أنهما يتخذان خطوات نشطة لتغيير الوضع الحالي.
وأخيراً، يقوم الروس بذلك على نطاق لا يستطيع الأوكرانيون مضاهاته حالياً. ومن المرجح أن تلعب كل من الطائرات المسيّرة التكتيكية والاستراتيجية طويلة المدى دوراً رئيسياً في ساحة المعركة في عام 2024. وإذا كان ما يقرب من 90 في المائة من الإصابات الأوكرانية سابقاً قد جاءت من القصف المدفعي، فإن البعض يشيرون إلى أنها تُعزى الآن بالتساوي تقريباً إلى المدفعية والطائرات الانتحارية بدون طيار.
وفي الشتاء الماضي، استهدفت روسيا البنية التحتية العسكرية والمدنية في أوكرانيا – وخاصة قدرات إنتاج الطاقة – لكنها غيرت التركيز الاستراتيجي بعد ذلك.
وهدفت الحملة في ذلك الوقت إلى كسر عزيمة الشعب الأوكراني لفرض تسوية عن طريق التفاوض وفق شروط روسيا، لكنها لم تنجح. ويبدو أن الجيش الروسي يعود إلى اتّباع هذه الاستراتيجية في هذا الشتاء ولكن بميزة جديدة.
الدعم الغربي غير مؤكد
بغض النظر عن مدى الرغبة في القتال وتحمل الخسائر، فإن الموارد مهمة، خاصة مع استمرار الجيش الروسي في التكيف.
إن مستقبل المساعدات العسكرية الأمريكية هو حالياً على المحك. فقد رفض مؤخراً مجلس الشيوخ الأمريكي حزمة مساعدات بقيمة 110.5 مليارات دولار لأوكرانيا وإسرائيل وحلفاء أمريكا في المحيط الهادئ. وإذا توصل الكونغرس الأمريكي وإدارة بايدن إلى تسوية بشأن مسألتَي الهجرة وأمن الحدود، فستحصل أوكرانيا على المساعدات اللازمة.
ولا يزال معظم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي يؤيدون تقديم المساعدات لأوكرانيا، ومن الناحية النظرية، لا يزال بوسع قادة الكونغرس حل هذه المشكلة. لكن التوصل إلى تسوية بشأن الهجرة يشكل تحدياً داخلياً للولايات المتحدة منذ أكثر من عقد.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن ما يغيب عن خاطر قادة الكونغرس هو أن الأموال التي أنفقت على أوكرانيا كانت مخصصة في الأساس لاستبدال المعدات العسكرية.
ويشعر الكونغرس بالقلق من أن المساعدات المقدمة لأوكرانيا – وإسرائيل – ستؤثر على المخزونات الأمريكية الضرورية للحفاظ عليها في حالة نشوب حرب بحرية إلى حد كبير ضد الصين. ولكن في الواقع، من خلال الإنفاق على أوكرانيا، تعمل الولايات المتحدة على تنشيط ودعم قاعدتها الصناعية.
وفي غضون ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أيضاً أن الدعم الشعبي المحلي في الولايات المتحدة لأوكرانيا قد بدأ يتضاءل، حيث وجد بعضها أن ما يقرب من نصف الأمريكيين يقولون إن الولايات المتحدة تبذل الكثير من الجهود لمساعدة أوكرانيا. وفي المقابل، تبين استطلاعات رأي أخرى أن أغلبية ضئيلة لا تزال تؤيد تقديم المساعدات لأوكرانيا.
فضلاً عن ذلك، يُظهر الدعم انقساماً حزبياً متزايداً، مع انخفاض حاد في دعم الجمهوريين مقارنةً بدعم الديمقراطيين.
ولم تتمكن إدارة بايدن والمجتمعات الأكاديمية والسياسة الخارجية الأمريكية الأوسع نطاقاً وإلى حد كبير من نقل ضرورة دعم أوكرانيا للشعب الأمريكي – ولماذا يهم ذلك الجمهور الأمريكي وما هي التكاليف التي سيتحملها إذا لم تنتصر أوكرانيا.
ولكن إذا لم تحصل أوكرانيا على مساعدات عسكرية قريباً، فقد تجد نفسها في وضع أسوأ من الجمود – إذ ستنقلب الموازين بشكل حاسم لصالح روسيا.
وقد يتحوّل الوضع إلى سيناريو شبيه بالحرب الروسية الفنلندية بين عامَي 1939 و 1940، التي أسفرت عن إنهاك الجيش الفنلندي الذي قاتل بمفرده، دون دعم خارجي. وفي نهاية المطاف، اعترفت فنلندا بالخسارة واضطرت إلى توقيع معاهدة سلام مع موسكو.
ومع ذلك، احتفظت فنلندا بسيادتها، على الرغم من خسارتها للأراضي. وانطلاقاً من أهداف بوتين المتطرفة، قد لا يكون ذلك ممكناً في حالة أوكرانيا.
إمكانية التوسع
في 14 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، أعلن بوتين أن “السلام لن يحل في أوكرانيا إلا عندما نحقق أهدافنا”، مضيفاً أن هذه الأهداف لم تتغير. وكان يتحدث في المؤتمر الصحفي الأول الذي سُمح فيه بحضور وسائل الإعلام الغربية منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
وليس لدى بوتين أي حافز لوقف الحرب بما أن الغرب لم يحدد استراتيجية متماسكة ولا نتيجة معيّنة لأوكرانيا تتضمن فرض تكاليف على روسيا تفوق فوائد القتال.
وخلال العامين الماضيين، ضاعف الرئيس الروسي جهوده القتالية. ولفهم الأمر بشكل أوضح، لا بد من النظر إلى علاقة روسيا الاستراتيجية المتنامية مع إيران والصين، وتحوّل كوريا الشمالية نحو روسيا، وبصمات روسيا في التصعيد المتزايد الذي يشهده النزاع في سوريا، والنزاع بين إسرائيل و”حماس”، والنزاع في فنزويلا حالياً.
ولا تُعد الحرب على أوكرانيا شأناً محلياً. فقد أظهر بوتين بالفعل أنه يضاعف جهوده حول العالم. وقد يشهد هذا العام تدخل روسيا بطرق متنوعة وإثارتها للأزمات الإقليمية من أجل تحويل انتباه الغرب عن أوكرانيا تحقيقاً لهدف بوتين المتمثل بإعادة تحديد قواعد النظام الدولي.
إن الحرب ليست في حالة جمود ويمكنها أن تتوسع عمودياً (في حدتها) وجانبياً (عندما يتعلق الأمر بالمجال) وأفقياً (جغرافياً).
وفي ظل هذه الخلفية قد تكون الانقسامات الداخلية المتنامية في الغرب والافتقار إلى العزيمة والتفكير الاستراتيجي لضمان انتصار أوكرانيا هي السمة المميزة لعام 2024.
ومن غير الواضح متى وكيف ستنتهي الحرب. ولكن من المؤكد أنه عندما يحدث ذلك، ستلعب النتيجة دوراً حاسماً في تحديد مسار العالم الذي نعيش فيه.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط” في معهد واشنطن. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “المجلة”.
صقر للدراسات لايتبنى ما جاء بالمقالة ويعرض وجهات النظر فقط
31/1/2024