دراسات الحربرصد وتقييم المؤشراتمقالات استراتيجية

اختلال الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط.. الدكتور مهند العزاوي

دراسات الحرب - الشرق الاوسط

اختلال الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط

الدكتور مهند العزاوي*

‏15‏ كانون الثاني‏، 2024

تؤكد المؤشرات الرقمية والحقائق السياسية والعسكرية بان العالم يخوض حربا عالمية قد اخلت بالموازين الاستراتيجية، وتجري هذه الحرب بأنماط مختلفة عن الحروب العالمية التقليدية ، وكان غزو العراق قد سبب اختلال الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط ونسف معادلة الامن والسلم الدوليين ،  وقلب الموازين الاستراتيجية والعسكرية والسياسية ، وخلق ظواهر متعددة منها ظاهرة العسكرة التي تبتلع الدولة ، وبعد عشرون عاما من غزو العراق، شهدنا بوادر ، ومؤشرات صراع عالمي واسع بين الاضداد الدوليين بالوكالة تارة وبالمباشر تارة اخرى ، ، وقد انتشرت ظاهرة مقلقة سياسيا وامنيا وعسكريا وهي ظاهرة (الدول الفاشلة) التي يجملها بعض الباحثين ويقلل من خطورتها بمصطلح (الدول الهشة)  ، ومن الضروري ان نبحث بشكل مختصر ماهي  مؤشرات اختلال الموازين الاستراتيجية في الشرق الأوسط

واقع سياسي وعسكري جديد

ذكر المفكّر العسكري البروسي “كارل فون كلوزفيتز ” ان طبيعة الحرب سياسيّة بامتياز. وقال: “الحرب هي السياسة بوسائل أخرى“، ويقول المفكرّ الأميركي “كولين إس. غراي” إن خصائص الحرب في ثلاثة أبعاد: اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة. ويتفق كلا الجانبين على ان احد ابرز ابعاد الحرب هي السياسة، لان القوة مهما كان شكلها وقدرتها وتنوعها فهي ظل السياسة على الأرض، وفي قراءة لمبادئ العلاقات الدولية نجد ان غالبية النظريات تؤمن بمبدأ حيازة القوة ، وتطويرها ليتم توظيفها سياسيا.

ومن المؤكد ان التحول السياسي او التخطيط لإنتاج واقع سياسي جديد في رقعة ما مستهدفة اقتصاديا لاي طرف، قد يحتاج الى عدة عوامل ابرزها: الفاعل المؤثر الذي يضمن تحقيق التغير الجذري ، ويسمى سياسيا بالحركة ، سواءً كانت بالقوة الناعمة او بالقوة الشبحية ( الاغتيالات – الانقلابات)، او باستخدام القوة العسكرية النظامية، او بالظاهرة العسكرية المتنامية في عالمنا العربي بالقوى اللامتناظرة ( التنظيمات المسلحة غير الحكومية) التي أضحت تتحكم بقواعد اللعبة السياسية  إقليميا ودوليا، وتدار هذه التنظيمات عن بعد من قبل الفاعلين الحقيقيين الراغبين بتغيير الواقع السياسي لدولة او إقليم ما  ، لترسم هذه الدول خارطة القوة والتاثير والنفوذ ، وحصل بالفعل حيث تمت الهيمنة والتصرف والتحكم بمقدرات دول كبيرة كانت فاعلة ما قبل التحولات بعد 2003.

واضحت هذه القوى غير النظامية تحظى بتمثيل سياسي واقتصادي ، وتحتكم على أسلحة قد تتفوق على أسلحة الدول العاملة فيها  وتهيمن على القرار السياسي، وقد تمكنت هذه القوى من تحقيق سيادة  اشبه بالمطلقة على الحوض الأهم في العالم ( حوض غرب  وشرق اسيا)، بتسهيلات من الدول الكبيرة والصغيرة ، وما حصل يعد تغيير جوهري في معايير السياسة والقوة ، ويخالف عدة عوامل حددتها السياسة الدولية ، وارست دعائمها بعد الحروب العالمية الأولى والثانية ،  لاسيما المتعلق منها  بالأمن والسلم الدوليين ،  وامن المجتمعات ، وسلامة الوحدات السياسية ( الدول)، وحقوق الانسان ، ومحددات التسليح واستخدام القوة.

مؤشرات مماثلة للحرب العالمية

نشهد مناخ الحرب العالمية ، لاسيما من النواحي السياسية والاقتصادية والحربية اذا ما قورنت بالمؤشرات الرقمية للحروب ، ورغم عدم اشتراك الأطراف المتصارعة بعمليات عسكرية مباشرة ، كما شهدتها الحرب العالمية ، لكن فعليا نلمس مواقع تنفيس لتأخير الانفجار العالمي  في رقع التنافس والنفوذ الافريقي والاسيوي ، وتخوض غمارها دولاً منتمية للمعسكر الشرقي ، وان تبدلت ملامحه ، وأخرى للمعسكر الغربي الذي تغيرت ملامحه كثيرا صوب الفشل والتراجع، وغالبا ما يتصارعون بالوكالة واحيانا اتحصل حتكاكات مباشرة في رقع التماس والتأثير والنفوذ المذكورة أعلاه ـ

وتأخذ هذه الحرب اشكالا مختلفة مع ثورة المعلومات والتقنية ودخولها في تصنيع الوسائل والمعدات والأسلحة العسكرية ، مضافاُ لها الحروب السيبرانية ، والحروب الجيواقتصادية، وحروب الطاقة ، وحروب الممرات البحرية ، وحروب الاستمالة والتحول بالقوة ، فضلا عن الحروب الأيديولوجية، وحروب الجريمة المنظمة والإرهاب التي أضحت احد الوسائل الحربية ضد الدول..

ولو قارنا المؤشرات الحالية المرتبطة بنتائج صراع المحاور، وحروب الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط، سنجدها تتشابه مع المؤشرات الرقمية للحرب العالمية  الأولى والثانية، لاسيما المتعلق بالضحايا والخسائر المدنية ، التغيير الديموغرافي تشريد ملايين الأشخاص وتهجيرهم من منازلهم ، الجينوسايد وجرائم الحرب،  إزالة الدول ، ظهور الجماعات المسلحة  على حساب تراجع القوة النظامية ، والوفيات بالحرب البيولوجية ( الأوبئة) ، وكانت المؤشرات الرقمية للحرب العالمية الثانية قد وثقت أعداد الضحايا من المدنيين تتراوح ما بين 40 وحتى 52 مليون نسمة؛ 13 وحتى 20 مليون منهم لقوا حتفهم نتيجة أمراض أو مجاعات ذات علاقة مباشر بالحرب في حين تراوحت الخسائر في صفوف العسكريين ما بين 22 وحتى 25 مليون فرد بما في ذلك قرابة 5 ملايين أسير ماتوا في الأسر أثناء الحرب ، ولو قارنا بشكل سريع سنجد المؤشرات الحالية الناتجة من الحروب الشبكية ضمن سياق الحرب العالمية الثالثة قد تقترب او تتخطى مؤشرات الحرب العالمية الثانية.

ولو استعرضنا النزاعات والحروب التي شنت خلال عشرون عاما سنجد ان العالم يخوض حرب دافئة متدرجة ، تارة بالجيوش النظامية وأخرى بالجيوش غير النظامية والشركات الأمنية معا ، ولعل من أبرز محطات الصراع العالمي كانت في أفغانستان ،العراق ،ليبيا ،سوريا ، اليمن، أوكرانيا ،السودان ،الصومال ،اثيوبيا ، أذربيجان ، أرمينيا، مالي ، النيجر ، غزة وغيرها ، كل هذه المؤشرات تتجه الى هدف محدد التنفيس عن الصدام العالمي بين الأطراف ، ولكن وسائل وأساليب الحرب قائمة بشكلها النظامي وغير النظامي ، والمؤشرات الرقمية للضحايا والخسائر التي قارنها  تضاهي مؤشرات الحرب العالمية الأولى والثانية .

حرب الممرات

لم تعد الممرات البحرية المهمة كالبحر الأسود ومضيق هرمز ، وبحر عمان ، ومضيق باب المندب والبحر الأحمر تتمتع بالأمن والانسيابية ، بل أصبحت مسرحا للعمليات العسكرية النظامية وغير النظامية ، رغم وجود علاقات شبكية دافئة بين دول التوافق والاضداد ، وترتفع أحيانا بين الدول المطلة على البحار والمضائق لاختلاف المصالح ، وتأثير العسكرة والعمليات على اقتصادات الدول ، وبطبيعة الحرب تتمدد من البر  الى البحر وكذلك الجو ، وسبق ان اشرنا ان أساليب الحرب متغيرة لاسيما بخصوص الموارد والوسائل ، ومن الملاحظ وفقا للمؤشرات العسكرية والسياسية ان الامن الدولي فقد معاييره في ظل الانتشار المسلح غير المكلف قياسا بكلفة استخدام القوة النظامية .

وقد ارست الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي نهجا استراتيجيا بعدم السماح للدول العربية بتحديث منظومتها العسكرية ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لتحقيق الدفاع الذاتي ضد المخاطر والتهديدات ، وعندما انفرط عقد هذا النهج ، وجدت الدول نفسها امام مخاطر جدية ترفض الولايات المتحدة التعامل معها ، مما فرض عامل المناورة نفسه لتحول تلك الدول باستخدام سياسة التجسير مع القوى الدولية والإقليمية ، وتحقيق التوازن لأبعاد شبح الحرب عن دولهم ، ورغم ذلك لم تختفي التهديدات الحيوية بل تطورت الى مخاطر أجبرت الولايات المتحدة على تعزيز وجودها العسكري في الممرات واعالي البحار بعشرات القطع البحرية وحاملات الطائرات ، وهذا مكلف جدا  من الناحية الاقتصادية وتعرض القوة لنيران معادية ، ولم تنفع عمليات الترقيع العسكرية المنفردة في معالجة التداعيات الأمنية والعسكرية في الشرق الأوسط وتحديدا في حوض غرب اسيا ، بل شهدنا مزيدا من النزاعات المفتعلة والهجمات عن بعد ، وازدهار سوق التنظيمات المسلحة والمرتزقة ، بالتجانس والتنسيق مع عصابات الجريمة المنظمة ، بعد ان اولت الدول الاهتمام والاسبقية لمحاربة الإرهاب دون تداخل المراحل ومعالجة التهديدات المماثلة.

خلاصة

تأسيسا لما اوردناه أعلاه فان العالم يخوض حربا عالمية بأنماط مختلفة، وقد تغيرت قواعد اللعبة في ظل صراع الكبار وطموح الفاعلين الاخرين ، ولم يعد هناك مجال للعودة الى الوراء ، لان عالمنا اليوم يخضع لمعادلات هجينة لا تتسق بالمعايير الأساسية التي اتفقت عليه الدول بعد الحرب العالمية الثانية ، أي نحن ام تحول وصيرورة لعالم جديد غير واضح المعالم لحد الان ، مالم تنجلي غبار الحرب او ربما يحدث الصدام الشامل لا سمح الله.

*باحث في الشؤون الاستراتيجية

‏الإثنين‏، 15‏ كانون الثاني‏، 2024

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى