مقالات استراتيجية

هل تنسحب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف “الناتو”؟

دولي - ازمة الغواصات - فرنسا والولايات المتحدة

هل تنسحب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف “الناتو”؟

يمتلك إيمانويل ماكرون عديداً من الأوراق لكن تحدي واشنطن لا تتحمله باريس

غواصات فرنسية من صنع شركة “نافال غروب” (أ ف ب)

في خضم أزمة الثقة المشتعلة بين فرنسا والولايات المتحدة بسبب صفقة الغواصات الأميركية – البريطانية مع أستراليا، يبدو أحد الخيارات المتاحة أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد سلسلة من التصريحات الفرنسية القاسية والمشتعلة غضباً وسحب سفراء فرنسا من واشنطن ولندن، ولكن هل يفعلها ماكرون؟ وما مخاطر ذلك على الطرفين؟ وهل ستتجه الأزمة لمزيد من التصعيد أم من الممكن التفاهم على حلول بين الحلفاء؟

ذروة الأزمة 

منذ أن أعلن قادة الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، الأسبوع الماضي، عن تحالف “أوكوس” الجديد، والذي ستحصل أستراليا بموجبه على 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية، وإعلانها إلغاء صفقتها مع فرنسا بالحصول على 12 غواصة تقليدية، استعمل الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان إيف لودريان، لغة لا ترتبط عادة بالدبلوماسية، ناهيك بالدبلوماسية بين الحلفاء، فقد وصفت الأفعال الأميركية بالأكاذيب، والخيانة، والازدواجية، والازدراء وبلغت الأزمة الدبلوماسية ذروتها باستدعاء السفير الفرنسي لدى الولايات المتحدة للمرة الأولى في التاريخ بين البلدين الحليفين.

وبينما واصل ماكرون التعبير عن غضبه بعدم تحديد موعد حتى الآن للرد على طلب الرئيس الأميركي جو بايدن بإجراء محادثة بينهما، وضغوط فرنسا لتأجيل مفاوضات تجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يراقب كثيرون خيارات باريس للرد على التجاهل الأميركي، والتي قد تصل إذا اختار ماكرون التصعيد، إلى انسحاب بلاده من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي عادت باريس للانضمام إليها عام 2009 بعد غياب دام 43 عاماً.

لماذا “الناتو”؟ 

ولكن لماذا تُقْدم فرنسا على الانسحاب من القيادة العسكرية لـ”الناتو”، والتي ستكون ضربة شديدة للتحالف الغربي؟ بالنسبة للرئيس ماكرون فإنه قد لا يتحمل أن يُنظر إليه على أنه ضعيف قبل ستة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بينما مارين لوبان، منافسته اليمينية، تتربص به، وقد تستغل الطعنة الأميركية لتقضي على ما تبقى منه، كما أن ماكرون سبق له أن عبر عن مشاعره السلبية إزاء الناتو عام 2019، عندما كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في البيت الأبيض، حيث وصف الحلف بأنه دخل في حالة موت دماغي.

ومن غير المرجح أن تفصل فرنسا غضبها أو تعزله، فهي مثل الولايات المتحدة، دولة جمهورية فخورة بنفسها، لديها طموحات عالمية ونظرة يتم إهمالها بشكل مثير للشك من قبل الحليف الأكبر في “الناتو”، وهو الولايات المتحدة، ولهذا فإن فرنسا لن تهتم كثيراً بتقديم تنازلات أو السعي إلى أرضية مشتركة مع واشنطن بشأن القضايا التي لا تعنيها، أو التي تختلف فيها، وقد يكون لهذا رد فعل سلبي على حلف “الناتو” وجهوده طيلة 10 أعوام لتطوير مفهوم استراتيجي جديد للحلف، والذي لم يعد الشغل الشاغل لفرنسا الآن.

خطر حقيقي

ويحذر ماكس بيرغمان، عضو فريق التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية سابقاً، من أن تقاعس الولايات المتحدة عن إصلاح العلاقات مع فرنسا، سيشكل خطراً حقيقياً قد يؤدي إلى ضرر مدمر وطويل الأجل ليس فقط للتعاون الثنائي، ولكن للتحالف عبر الأطلسي ككل، لأن التعامل غير المتوازن مع اتفاقية الغواصات الأسترالية قوّض أنصار الحلف داخل المؤسسة الأمنية الفرنسية، وبخاصة أولئك الذين عملوا لسنوات لإثبات أن فرنسا يجب أن تعمل مع الولايات المتحدة في معالجة المخاوف بشأن الصين وأمن المحيطين الهندي والهادي. وفي المقابل، ستدفع إهانة الولايات المتحدة لفرنسا بهذه الطريقة إلى تمكين أصحاب المصلحة في باريس الذين يدافعون عن علاقة أكثر برودة مع واشنطن من العودة إلى تقاليد السياسة الخارجية الديغولية التي تقدر التحالف مع الولايات المتحدة، ولكن لا تتحالف بالضرورة في القضايا الرئيسة المتعلقة بروسيا والصين.

وإذا انتصرت هذه الرؤى، يمكن لفرنسا أن تعطل التقدم وتقلب التعاون عبر الأطلسي رأساً على عقب، ما سيقود إلى إثارة غضب المسؤولين الأميركيين وتنشيط المشاعر المعادية للفرنسيين الكامنة داخل الحكومة الأميركية، وتقليص انخراط الأميركيين مع أوروبا وإضعاف التحالف الأطلسي أكثر مما كان عليه.

ليس خياراً

غير أن انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف “الناتو” ليس على ما يبدو خياراً ناجعاً حتى الآن على الأقل، إذ يبدو المشهد الأمني أعقد بكثير داخل الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أن فرنسا لا تبدو عازمة على قطع جميع خيوط العلاقة مع واشنطن على الرغم من حالة الحنق والنفور بين الفرنسيين بسبب ضياع صفقة الغواصات مع أستراليا، والتي تعد أكبر صفقة عسكرية لباريس، فمن ناحية التزم غالبية المسؤولين في الاتحاد الأوروبي الصمت، رغم الإهانة التي تعرضت لها فرنسا، باستثناء تصريحات أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، التي تحدثت عن أن التعامل مع إحدى الدول الأوروبية، من دون أن تسمها، تم بطريقة غير مقبولة.

أما دول وسط أوروبا مثل بولندا والمجر، فإنها تضع مظلة الحماية الأميركية عبر “الناتو” فوق المصالح الفرنسية في المحيطين الهندي والهادي، بالنسبة لهم لا تشكل فكرة السيادة الأوروبية والجيش الأوروبي الموحد سوى لعنة، ليس فقط لأنهم يريدون سيطرتهم الخاصة، التي سرقها الاتحاد السوفياتي منذ وقت ليس ببعيد، ولكنهم أيضاً يدركون أن حجم الخطر الروسي الذي لن توقفه سوى الولايات المتحدة بالنظر إلى حالة الجيوش الأوروبية المزرية، ولأن قرارات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تُتخذ بالإجماع، فإن هذه الاختلافات تبدو مهمة إلى حد كبير لأنها تجعل المطامح الفرنسية بعيدة المنال.

أوراق ماكرون 

ومع ذلك، فإن فرنسا تملك من الأوراق ما يهدد قوة وتماسك حلف “الناتو”، فقد تسعى إلى تدعيم شراكتها مع روسيا، ما سيقوض جهود الولايات المتحدة لتشكيل وحدة عبر الأطلسي، وعلى الرغم من أن التواصل مع روسيا أدى في بعض الأحيان إلى نفور عدد من دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة الحلفاء في أوروبا الوسطى والشرقية، إلا أن فرنسا لديها تاريخ حافل بالأمل في أن التعامل مع روسيا قد يؤدي إلى تعديل نهج موسكو العدائي تجاه أوروبا، وهو ما قد ترحب به هذه الدول.

وما يزيد من تعقيد المشهد، بحسب ما تقول صحيفة “نيويورك تايمز”، أن ماكرون لديه بالفعل بعض الأوراق التي يمكنه أن يستخدمها ضد المصالح الأميركية، ومن أهم هذه الأوراق ألمانيا، التي تعمل أولاً من أجل مصالحها الاقتصادية الهائلة في الصين، فهي حذرة مثل فرنسا، وربما أكثر، إزاء نهج المواجهة الأميركي ضد الصين، والذي يفضله بايدن، وبخاصة أن حجم التجارة الثنائية الألمانية مع الصين يتجاوز التجارة الأميركية مع بكين.

ويدرك المسؤولون الأميركيون أيضاً أن تداعيات صفقة الغواصات قد تؤثر على التعاون الأوروبي – الأميركي في قضايا أخرى مثل التكنولوجيا والتجارة، وحتى قضايا المناخ، فعلى الرغم من أن فرنسا لا تستطيع تحديد أو إملاء الشروط في الاتحاد الأوروبي بمفردها، لكن يمكنها بالتأكيد منع الاتفاقات باستخدام الفيتو، ودفع بروكسل لاتخاذ موقف أكثر تشدداً بشأن النزاعات التجارية والتنظيمية مع الولايات المتحدة، وجعل الاتحاد الأوروبي شريكاً تفاوضياً أقل مرونة.

ويشير التاريخ إلى أن الأزمات الفرنسية – الأميركية الكبرى مثل تلك المتعلقة بحرب العراق عام 2003، والقرار المفاجئ من قبل إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما بعدم قصف سوريا عام 2013، أدت بالفعل إلى تفجير العلاقات على ضفتي الأطلسي، وهو آخر ما تريده الولايات المتحدة التي تأمل في حشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء.

شريك مهم

تدرك أميركا أهمية فرنسا ليس فقط داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً في جميع أنحاء العالم، فقد برزت فرنسا كشريك عسكري مهم للولايات المتحدة خلال العقد الماضي، فهي تمتلك القوة العسكرية الأكثر قدرة داخل الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، حيث تنفق 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهي على استعداد لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها، واتخذت فرنسا زمام المبادرة في منطقة الساحل، وتدخلت عام 2013 لمنع سقوط دولة مالي في أيدي المتطرفين الإسلاميين، ووقعت خريطة طريق مع الولايات المتحدة لزيادة تعاون القوات الخاصة في عمليات مكافحة الإرهاب.

ومن المفارقات أنه في نفس اليوم الذي علمت فيه فرنسا بالشراكة الجديدة بين كانبيرا ولندن وواشنطن، أعلنت أن القوات الفرنسية قتلت زعيم تنظيم “داعش” في أفريقيا، الذي حملته الولايات المتحدة مسؤولية مقتل أربعة جنود أميركيين وستة جنود نيجيريين في النيجر. وأشار ماكرون إلى أن فرنسا ستواصل الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل مع الشركاء الأفارقة والأوروبيين والأميركيين.

لاعب رئيس 

كما تعد فرنسا لاعباً رئيساً في منطقة المحيطين الهندي والهادي، إذ إن بولينيزيا الفرنسية الواقعة في جنوب المحيط الهادي تعد محمية فرنسية، ما يمنح باريس ثاني أكبر منطقة اقتصادية حصرية في العالم، ولدى فرنسا 7000 جندي منتشر بشكل دائم في هذه المنطقة وقوة بحرية قوية تتميز بغواصات هجوم نووي، وتجري فرنسا عمليات لحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان، واستضافت في أبريل (نيسان) الماضي مناورات بحرية مشتركة مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند في خليج البنغال، كما تتمتع فرنسا بعلاقة عسكرية قوية مع الهند التي تزودها بعدد 36 طائرة مقاتلة متطورة من طراز “رافال”، والتي ستحدث أسطول المقاتلات الهندي بشكل كبير.

وعلاوة على ذلك، فإن تركيز الاتحاد الأوروبي المتزايد على منطقة المحيطين الهندي والهادي ودوره الحاسم في وضع معايير بشأن قضايا التجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، يجعل إصلاح العلاقات الأميركية مع فرنسا أمراً ضرورياً وداعماً لاستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

طريق التصالح

قد تحتج واشنطن بشكل مشروع على أنها ليست مسؤولة عن إلغاء أستراليا لبرنامج الغواصات مع فرنسا، على اعتبار أن ذلك كان قراراً أسترالياً، ومع ذلك فإن المصدر الأساسي لغضب فرنسا هو الطريقة التي انخرط بها المسؤولون الأميركيون في دبلوماسية سرية ضللت باريس في اجتماعات رفيعة المستوى بشأن قضية ذات أهمية استراتيجية وصناعية كبيرة، ولهذا ستحتاج إدارة بايدن والرئيس نفسه إلى جهود متضافرة لإقناع فرنسا بأنها شريك مهم للولايات المتحدة، وسيتطلب هذا أكثر من بضع كلمات من المديح من بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، ذلك أن واشنطن تحتاج إلى العمل بجد لإعادة العلاقات الفرنسية – الأميركية إلى مسارها الصحيح، وبخاصة أن وضع فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، وهو سوق مكافئة في الحجم للولايات المتحدة والصين، يمنحها نفوذاً كبيراً مع مغادرة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل المسرح السياسي الأوروبي بعد 16 عاماً في السلطة، ومن المرجح أن تعطي حكومة ألمانية جديدة الأولوية لإقامة علاقات فرنسية – ألمانية قوية على العلاقات مع واشنطن، ومن ثم سيصبح دور ماكرون أكثر أهمية في أوروبا.

ما ستفعله واشنطن 

يعتقد كثيرون في واشنطن أنه ينبغي على البيت الأبيض أن يبدأ في إصلاح العلاقات مع فرنسا من خلال دعوة ماكرون لزيارة العاصمة الأميركية، والذي لم توجه له دعوة منذ تولي إدارة بايدن السلطة في البيت الأبيض من أجل بناء شراكة فرنسية – أميركية جديدة وتعميق العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية بينهما بهدف بناء الثقة من خلال هذه المشاركات، ووضع الأساس لتعاون دفاعي وأمني أعمق، وبخاصة فيما يتعلق بمبيعات الدفاع والأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادي، لكن أكبر خطوة يمكن أن تتخذها إدارة بايدن هي دعم جهود الدفاع عن الاتحاد الأوروبي، وهو أن يقطع شوطاً طويلاً نحو إصلاح العلاقات، نظراً لأن هذا الملف يمثل الأولوية الجيوسياسية القصوى لماكرون قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام المقبل، إذ من المرجح أن تكون هذه هي النقطة المحورية للرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، وسيكون ماكرون في أمسّ الحاجة إلى نجاحها.

دعم أميركي لأوروبا

ولا شك في أن ماكرون بحاجة إلى دعم أميركي للأمن الأوروبي، لأن دول أوروبا الوسطى والشرقية لن تدعم جهود الدفاع في الاتحاد الأوروبي إذا لم تكن الولايات المتحدة على جزء مهم من هذه الجهود، نظراً لأن دول البلطيق وبولندا، على سبيل المثال، تواجه تهديداً وجودياً من روسيا، ولن تؤدي تأكيدات المبادرات الدفاعية الأوروبية إلى طمأنتها إذا كانت الولايات المتحدة أقل انخراطاً في أوروبا أو “الناتو”.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة عارضت المبادرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي على أساس أنه ينتقص من قيمة حلف الناتو، فإن هذا الوضع ظل يثير غضب فرنسا، وهو السبب في أنها دفعت الاتحاد الأوروبي إلى البدء في تولي الأمن بنفسه، وعلى الرغم من أن إدارة بايدن خففت معارضتها السابقة، فإنها لم تؤيد بشكل كامل جهود الدفاع للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أحبط ماكرون.

ويرى متخصصون أنه إذا كانت إدارة بايدن راغبة في إعادة باريس إلى تحالفها الأوسع، فإنه يجب عليها الموافقة على دعم جهود الدفاع في الاتحاد الأوروبي، وأن تعرض استخدام نفوذها الدبلوماسي لطمأنة دول وسط وشرق أوروبا المتشككة بأن التوسع الطموح للدفاع الأوروبي يحظى بدعم الولايات المتحدة، وفي المقابل تحصل واشنطن على دعم فرنسا لتعاون أفضل بين الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، بما يؤدي إلى تغيير جذري في نهج أميركا تجاه أوروبا ويضع الأساس للتكامل الدفاعي الأوروبي، ويقوي الاتحاد الأوروبي، ويعيد تأسيس شراكة فرنسية – أميركية قوية.

ومع ذلك، لا يبدو أن واشنطن ستسلك هذا النهج حتى الآن، لكنها قد تعيد النظر في سياساتها تجاه باريس بما يضمن عدم تفسّخ أو انهيار تماسك حلف “الناتو”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى